نقاء القلب.. وكمال التوبة
بقلم: البابا شنودة الثالث
كمال التوبة ليس هو مجرد عدم فعل الخطية, إنما هو كراهية الخطة. أي أن القلب يكون قد تنقي تماما من كل محبة للخطية أو تجاوب معها. وهكذا يكون القلب نقيا. إذن فالتوبة الكاملة هي علامة علي نقاء القلب. ولكن ماهو المقياس الذي يثبت كمال التوبة؟.
** وقد يظن الانسان انه تائب بسبب انه ترك الخطية الرئيسية التي تتعب ضميره, ولم يعد يسقط فيها الآن اي انه لم يعد يزني أو يسرق او يغش ولم يرتكب خطايا في هذا المستوي. لذلك استراح ضميره, وظن انه تاب....! وربما في نفس الوقت يكون واقعا في خطايا كثيرة يعتبرها طفيفة, ولا تدخل في مقاييسه الخاصة بالتوبة. مثل الحديث بافتخار عن النفس, والفرح لمديح الناس, وتبرير الذات باستمرار, والتشبث بالرأي الذي يقود الي العناد, مع إهمال بعض عناصر العبادة كالصلاة مثلا, وربما عدم احتمال الإساءة, وعدم دفع نصيب الله في ماله... ومع هذا كله, ضميره لايوبخه. لانه لم يصل الي المستوي الذي يتبكت فيه علي امثال هذه الأمور.
إنه ولاشك محتاج الي ان ترتقي مقايسه الروحية, لكي يتوب عن أمثال هذه الخطايا التي يعتبرها طفيفة او لايلتفت إليها باهتمام! وعليه ان يطردها جميعها من قلبه ومن فكره.
وهنا يصعد الإنسان درجة في سلم التوبة لكي ينضج روحيا, ويصير ضميره حساسا جدا.
فهل إذا وصل الي هذه الدرجة نحكم عليه بأنه وصل الي نقاوة القلب؟ هنا نبدي ملاحظة هامة, لكي تكون لنا دقة في الحكم وهي:
ربما هو لايخطئ, لأن الشيطان قد تركه الي حين. والشيطان حكيم في المحاربة بالخطيئة. يعرف متي يحارب, وكيف يحارب, وفي أية خطية يركز قتاله... فإن وجد شخصا متحمسا جدا لحياة البر, ومستعدا, يتركه فترة حتي يثق هذا الإنسان بنفسه ثقة كاملة ربما تدفعه الي التهوان والتراخي وعدم التدقيق. ثم يرجع الشيطان اليه في وقت يكون فيه اقل استعدادا وحرصا فيسهل إسقاطه.
وهذه الفترة لاتكون فترة انتصار علي الخطية, إنما فترة عدم قتال. إنها فترة راحة من الحروب الروحية, وليست انتصارا من الله. فإن وجدت نفسك لاتسقط في خطية معينة, ربما لايعني هذا أنك تنقيت منها تماما. وربما يرجع السبب الي ان الشيطان لايقاتلك بها حاليا, او ربما الظروف الحالية غير مواتية, ولاتوجد عثرات ومسببات للخطي, ولا ما يثيرك من جهتها! والشيطان لايقاتلك الآن, ليس حبا في إراحتك, وإنما لانه يجهز لك فخا من نوع آخر وربما يكون هذا الفخ هو الافتخار بنقاوتك.
ومن الملاحظ ان بعض الخطايا لها مواسم, وليست دائمة. إنها مثل دورات الألم أو الوجع.
تلف دورتها في عنف وشدة, ثم تهدأ, ثم تلف دورة اخري, وهكذا... أو مثل نبات له أحيانا موسم رقود وفي وقت آخر موسم إزهار وإثمار.
أو من الجائز ان الله ـ تبارك اسمه ـ اراد ان يريحك فترة من إرهاق الخطية حتي لاتبتلع نفسك من اليأس. لذلك تدركك مراحم الله, وتحفظك النعمة وتسندك ولو إلي حين. فتمر عليك فترة هدوء لاتزعجك الخطية, لأنك غير مقاتل بها حاليا.
أو من الجائز انك مستريح الآن لأن صلوات قد رفعت لأجلك, سواء من قديسين في السماء, او من أحباء لك علي الأرض. واستجاب الرب لهم, واسترحت من الخطية وضغطاتها.
ولذلك نقول ان هناك فرقا بين نقاوة الأطفال, ونقاوة الناضجين سنا وروحا. حقا ان الاطفال لهم قلب نقي بسيط لم يعرف الخطية بعد, ولم يدخلوا بعد في حرب روحية, ولم تختبر إرادتهم بعد. اي انهم لم يصلوا الي السن التي تختبر فيها ارادتهم. وهم غير الكبار الناضجين الذين دخلوا في حروب العدو وقاتلوا وانتصروا, ورفضت ارادتهم الحرة كل اغراءات الخطية. هؤلاء لهم مكافأة الغالبين التي ليست للأطفال. وما أعظم الذين يصلون الي نقاوة مثل نقاوة الاطفال بعد صراعات وحروب روحية خرجوا منها منتصرين.
والنقاوة الكاملة هي نقاوة من جميع الخطايا بكل صورها وأنواعها. سواء كانت بالعمل او بالفكر, أو بالحواس, أو بمشاعر القلب, او بسقطات اللسان. ولاتظن اذن انك قد وصلت الي درجة نقاء القلب, إن كنت قد تخلصت من بعض الخطايا التي كان لها سلطان عليك, إنما النقاوة الحقيقية هي النقاوة الكاملة الشاملة بحيث لايكون لأية خطية من الخطايا سلطان عليك, فهل انت كذلك؟ وهل تنقيت من جميع الخطايا حتي التي تتنكر في كل فضيلة لتخدعك.
والنقاوة الحقيقية تكون نابعة من القلب وليست مظهرية خارجية. يذكرني هذا الامر بأن كثيرا من الوعاظ حينما يتكلمون عن حشمة المرأة, يركزون علي ملابسها وزينتها وشكلها الخارجي, دون ان يهتموا بالقلب ومحبة العفةوالحشمة فيه, هذا الذي إذا وصلت إليه المرأة, يكون من نتائجه تلقائيا حشمة الملابس والزينة. كذلك ينبغي للعمل النقي, أن يكون نقيا ايضا في أهدافه ووسائله, ويحكم عليه ضمير صالح غير منحرف, ويعتبر الانسان نقيا تماما لو دخل في كل حرب مع الخطية في عمقها وشدتها ولم يهتز. فاختبار نقاوة القلب يأتي من الحروب الروحية الشديدة في استمرارها وإلحاحها. لان الشخص قد ينتصر مرة, ولكنه لو استمرت الضغوط مدة طويلة ربما يضعف امامها ولايقوي علي المقاومة. والشيطان يختبر كل شخص, ويدرس نواحي الضعف فيه, ويضغط بشدة علي نقط الضعف, وتزداد حروبه قسوة. إن نقاوة القلب درجة عالية جدا, لاتكون في بدء الحياة الروحية إنما قد يصل اليها الانسان بعد اختبارات طويلة منتصرا علي كل أنواع الخطايا, فكرا, وقلبا وحواسا ولسانا وجسدا وعملا.